![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
#41 |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() تاريخ التسجيل: 18 - 8 - 2011
المشاركات: 19,566
معدل تقييم المستوى: 7645 ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
__________________
هناك فراغات يتركها الراحلون ..يخلدها الزمن ... تبقى منحوته على الصخور .. لا يمكن أن يملأها الآخرون ؟؟؟ |
![]() |
![]() |
![]() |
#42 |
عضو مميز
![]() تاريخ التسجيل: 25 - 1 - 2023
المشاركات: 498
معدل تقييم المستوى: 7 ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
__________________
|
![]() |
![]() |
![]() |
#43 |
عضو مميز
![]() تاريخ التسجيل: 25 - 1 - 2023
المشاركات: 498
معدل تقييم المستوى: 7 ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
روايه انت لي الحلقه 15 و 16 , رواية انت ليالحلقة الخامسة عشر أكاد أطير من الفرح … لأن وليد سيأتي اليوم … إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي ! أهي كريات الدم في عروقي ؟؟ أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟ أم تيارات الهواء في صدري ؟؟ بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل … و أترقب حضوره متى سيصل ؟؟ سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره … استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي ! ” رغد … ما ذا تفعلين ؟؟ ” اضطربت قليلا ، ثم قلت : لا شيء … والدتي ابتسمت ، و قالت : ” لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! ” شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق ! إنني لم أر سامر منذ أسابيع … و أعلم أنه سيعود ليلا … لكنني … لكنني كنت أرتقب وليد ! كان هذا يوم الأربعاء … ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة … إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي … و الاضطراب يسود الأجواء … ” تعالي و ساعدينا ! ” ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي ! كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت : ” فيم أساعدك ؟؟ ” و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال : ” دانة فيم أساعدك ؟؟ ” انتبهت لي أخيرا ، و قالت : ” تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! ” دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم ! تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل ! صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب ! مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء ! ” رغد ! جففي بأمانة ! ” قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة … فابتسمت ! فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل ! لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم ” يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! ” ” حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! ” ” طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ ” ” لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ ” لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلة تخرجي ! إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات ! أو على الأقل ، معظمنا ! قلت : ” بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! ” و ضحكنا ! لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة : ” هل حضر ؟ ” ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة : ” أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! ” قالت والدتي : ” ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ ” ” سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! ” بدا على والدتي بعض الاستياء … ثم قالت : ” أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت ” عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد . أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت … بصمت … بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها … و أنا أمر من والدتي قالت : ” رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل ” أذعنت للأمر … و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل … بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب : ” إلى أين رغد ؟؟ ” ” سأذهب للاستحمام ! ” ” انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم … ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! ” شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي ! أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي ربما يكون وليد ! أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة ! ” أوه رغد ! ماذا فعلت ! ” والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي .. ” انزلقت من يدي ! ” و تركت كل شيء و هممت بالانصراف ” إلى أين ؟؟ ” ” سأرى من عند الباب أمي ! ” و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة … و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين ! حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة : ” أبي … هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود ” أمي نظرت إلي و قالت مباشرة : ” عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! ” قلت : ” و لكن … إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! ” قالت : ” هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة … النهار يودعنا ” لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت : ” أبي … لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! ” والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة : ” فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن ” خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان … و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر … كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى … لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟ لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟ هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع … لابد أنه وليد ! تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب … قال : ” اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! ” رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس ( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل … فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية … أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد … وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها … لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل … وقفت أراقب … و أنتظر … لقد طال العناق و الترحيب … و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي ! و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد ! تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح : ” كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك ” و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول : ” طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ … ألف مبروك عزيزتي ” كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر ! و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ وليد ! من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل ! ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟ و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي … نحو المدخل … أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس … مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا … و حدة … و اشتعالا ! توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة … و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي … الدماء سيالات الأعصاب و الأنفاس ! و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد … و رأسه يعلو … و عنقي يرتفع ! سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها … و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني … بل يكاد يمزقهما ! ” كيف حالك صغيرتي ؟؟ ” و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق ! رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق ! ” بخير … ” و لكن … حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا … لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي ! لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة … و هاهي دانة تفتح الباب … و هاهو يدخل من بعدها … و يدخل والداي من بعده … و ينغلق الباب من بعدهم ! وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك … حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها … مرت برهة … و أنا أحدق في الفراغ ! هل كان وليد هنا ؟؟ هل مر وليد من هنا ؟؟ هل رأته عيناي حقا ؟؟؟ لم أجد جوابا حقيقيا … بدا كل شيء كالوهم و الخيال ! أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت … و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة … حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون … كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه … لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة ! بعد قليل ، أمي قالت فجأة : ” أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ ” الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد ! و بالفعل شممت الرائحة ! ” إنها قادمة من هناك ! ” و أشارت والدتي نحوي … طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة إلا أنني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني ! و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ … لم تجد ما يحترق هناك … ثم سمعت صوتها تنادي بقوة: ” رغد تعالي إلى هنا ” ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس … تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء ! صحت : ” أوه ! يا إلهي ! ” و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد ! ” انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! ” أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة … ” ماذا سأفعل الآن ؟؟ ” قلت بيأس … فأجابت أمي بغضب : ” ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه ” عند هذا الحد … و لم أتمالك نفسي … و انخرطت في بكاء شديد رغما عني … في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق … والدي قال : ” ماذا حصل ؟؟ ” أمي أجابت باستياء : ” تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة ” كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع … كم شعرت بالحرج و الخجل … إنني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أنني لم أكن مضطربة و مشتتة هذا اليوم … كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة … رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار … كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك … كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، إلا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه …. الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة … وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك … ” إذا سمحت … ” قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي … في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية ! و الآن … حزينة … محرجة … مجروحة الخاطر … مخذولة … بدموع جارية … و قلب معصور … و فستان محروق ! و بلا حلي ! أكثر ما أثر بي … هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد … و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته ! غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة … و بقيت حبيسة الألم و الغرفة فترة طويلة …. بعد مدة سمعت طرق الباب … قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي … تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة … أمي قالت : ” رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ ” وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال : ” لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد ” أمي صمتت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة : ” يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد … ” رفعت رأسي إليها و قلت : ” بم ؟ لا فستان و لا حلي ! ” تنهدت أمي و قالت : ” ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك ” لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه ! قلت : ” لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل ” و بكيت بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة ! لماذا فعل ذلك ؟؟ ألم أعد مهمة لديه ؟؟ ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟ إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة … أعرف أن أمي تحبني و تدللني ، مثل أبي … و هذا ما اعتدته منهما … لذلك حين قالت : ” حسنا … اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل ” لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق … أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج … و قلت : ” لا أملك مبلغا كافيا ” ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت : ” سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد ” و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها … و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول : ” لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! ” كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد … أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت : ” قلت لك أنني لن احضر … دعوني و شأني ” و أوشكت على البكاء أمي قالت : ” قد يعود بعد قليل … ” لكنني كنت قد فقدت الأمل ! جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى … ” أيمكنني فعل شيء ؟؟ ” كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى … للأعلى … للأعلى ! العملاق وليد ! أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي : ” ننتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! ” قال : ” لدي سيارة … إذا كان الأمر طارئا … ” الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق ! أمي قالت : ” أنت … قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر … ” ” لست متعبا جدا ” ” … ثم أنك لا تعرف المنطقة ! ” قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي : ” لكنكما تعرفان ! ” أي نوع من الأفكار تعتقدون أنني رأيتها ؟؟ مجنونة ! قالت أمي بتردد : ” إنني مشغولة في المطبخ ” فاستدار وليد إلي و قال : ” و أنت ِ ؟أ تحفظين الطريق ؟؟ ” ربما كان سؤاله عاديا أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟ قلت : ” نعم ! طبعا ” ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها … أمي بدت مترددة … لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا: ” ما رأيك رغد ؟؟ ” أنا أقرر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت : ” حسنا ” و وقفت و سحبت حقيبتي … التفتت أمي نحو وليد و قالت : ” انتبه لها ” وليد دخل إلى غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة … تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله ! خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟ سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل … و سمعت صوت باب سيارة ينفتح … ما إن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد … نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين … المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي … شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام … وليد شغل السيارة و انتظرني … و طال انتظاره ! التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك ضغط على بوق السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية … الموحشة البائسة … التي طردتها من خيالي عنوة … وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال : ” ألن تذهبي ؟؟ ” تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني … يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة ! عندما كنا صغارا ، أنا و دانة … كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن ! وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق : ” أين نتجه ؟ ” سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب . كان سوقا صغيرا مليئا بالناس … أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول : ” كم ستبقين ؟؟ ” تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء : ” ألن تأتي معي ؟؟ ” وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال : ” و هل يجب أن آتي معك ؟؟ ” قلت : ” نعم ! ” قال : ” سأنتظرك هنا … هذا أفضل ” بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول : ” هل يجب أن أرافقك ؟؟ ” قلت : ” أو تعيدني للبيت ” و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي … وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي قلت : ” من هنا ” و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة … التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر … عدت أدراجي إليه بسرعة … ثم قلت : ” ألن تدخل معي ؟؟ ” وليد بدا مترددا حائرا … ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق ! لذا تحرك ببطء … لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق ! إنه أجمل و أغلى ! حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن ! كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات ! لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسير على مقربة مني بصمت و اضطراب … أنا أيضا كنت خرساء جدا ! أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس … لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه ! جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد … تلفت يمنة و يسرة و لم أجده … أقبل صاحب المتجر يسألني : ” ماذا أعجبك سيدتي ؟ ” أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور … ” وليد ” نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى … التفت إلي : ” هل انتهيت ؟ ” ” لا ” تعجب ! و قال : ” إذن ؟؟ ” قلت : ” لا تبتعد عني ” بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر … اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها إلا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه قبل أن نغادر المتجر قال وليد : ” أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! ” أما أنا فاعرف ماذا تحب ! اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما … و تتجدد دائما … و غالية دائمة … و نعشقها دائما ! اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد : ” سألقي نظرة ” و سار خطى سريعة نحو المدخل … كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال … و أنا أرى وليد يبتعد … و يهم بدخول المتجر … و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة … و الناس يتحركون من حولي … ذهابا و إيابا … و رجال يدخلون … و رجال يخرجون … و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال : ” وليد ” و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي … أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه … و هو اقترب خطوتين … و حين أصبحت أمامه قلت : ” لا تتركني وحدي ” وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا : ” سألقي نظرة سريعة فحسب … لدقيقة لا أكثر ” عدت أقول : ” لا تتركني وحدي ” عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال : ” هل تريدين شيئا آخر ؟؟ ” قلت : ” كلا ” قال : ” إذن … هيا بنا ” عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت : ” شكرا … وليد ” لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه ! كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة ! دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه … والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي : ” هل وجدت ما أردت ؟؟ ” و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله … ” نعم ” و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات … ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا … فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة : ” إنه طقم رائع جدا ! انظري … ” و قربته منها فتأملته و قالت : ” نعم رائع و لكن … ” لم تتم الجملة ، بل قالت : ” و لكنك اشتريته على أية حال ! ” ابتسمت ابتسامة النصر ! و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت : ” أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ ” وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال : ” لا أفهم في هذه الأمور ، لكن … نعم رائع ” و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء … أمي قالت : ” بني … اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد ” الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه … باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ ! ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟ أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر … كم يبدو مختلفا الآن ! ” رغد ألن تستعدي ؟؟ ” انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف ! ” حاضر ، نعم سأذهب ” و انطلقت نحو غرفتي … ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت … إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت : ” أمي … لم كانت رغد تبكي ؟؟ ” أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر ! قالت أمي : ” لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم … ! ” صمت برهة ثم قلت : ” و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم ” ابتسمت والدتي و قالت : ” إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! ” أوه هكذا ؟ جيد … ! لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي … أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد …؟؟ قلت بتردد : ” هل … هل … تحسنون معاملتها ؟؟ ” رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب … ثم قالت : ” طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا … ندللها كثيرا ! ” تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول : ” إذن … لماذا كانت تبكي ؟؟ ” أمي تعجبت أكثر ، و قالت : ” قلت لك … بسبب الفستان ! ” قلت : ” لا أمي … أعني قبل ذلك ” ” قبل ذلك ؟؟ ” ” عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي … ” في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار … الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل … فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟ لم أتحمل رؤيتها تبكي … عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان … ترى … هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي … و الأحلام الوهمية … و الذكريات المهجورة ؟؟ حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك … تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة … قلت : ” و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! ” قال أبي : ” لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! ” لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي … بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا … و أطال عناقي الأخوي … أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا … و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها … شيء رفع من معنوياتي المتدهورة لكن … سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة … لو كنت بركانا … أو قنبلة … أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار لكنني كنت وليد أو بالأصح … شبح وليد … ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف … لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا … لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض … ليت أمي لم تلدك يا سامر ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية … ” أين العروس ؟؟ ” سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد … ” في غرفتها ! تتزين ! ” قالت رغد ، فقال : ” سأذهب لرؤيتها ” و شد رغد يحثها على السير معه … و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري … ليتني لم أعد أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر هل يحس أحد بي ؟؟ سمعت أمي تقول : ” ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ ” متعب ؟؟ فقط متعب ؟؟ ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا ! رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي م& رواية انت لي الحلقة السادسة عشر لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي … لكنها كانت من أسوأها كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا … و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا . خلال تلك الأيام الخمسة … كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها : ” هل تسرقين ؟ ” اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها . لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج … إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي … فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل … و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار … في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها ! ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف … رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها … و بدأت تتفرج و تختار ما تريد … و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة … لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر ! أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين … ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج … و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري ! قلت : ” رسوم جميلة ! ” ” نعم . سأشتري الألوان من هناك ” و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها … فعدت معها … انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت … مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا … استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي ! و بيني و بينها مسافة بضع خطوات تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها : ” هل انتهيت ؟؟ ” قالت : ” لا ” تعجبت ! قلت : ” إذن ؟؟ ” قالت : ” لا تبتعد عني ” يا لهذه الفتاة ! قلت : ” حسنا ! ” و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني : ” وليد ” قلت : ” سأحضر سلة لحمل الأغراض ” فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي ! عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب … الكثير من الكتب أمام عيني ! يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه ! لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة … أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها … و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى … حتى غرقت في البحر حقا ! كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة … و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك … دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما ! كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا … لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها … فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول : ” أنا هنا ” و لم أسمع لها صوتا ! أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها ثم وجدتها بين حاجزين … ” أنا هنا ! ” حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف ! كانت فزعة !! وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور ! نظرت إليها بذهول … قلت : ” ما بك ؟؟ ” قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها : ” أين ذهبت ؟ ” أجبت : ” أنا هنا أتفرج على الكتب ! … ما بك ؟؟ ” رغد ضغطت على ذراعي بقوة … و قالت بفزع : ” لا تتركني وحدي ” نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق … و الحيرة … فقالت : ” لا تدعني وحدي … أنا أخاف ” لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك … و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر … لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم … قلت : ” أ أنت ِ … بخير ؟؟ ” فعادت تقول : ” لا تتركني وحدي … أرجوك … ” لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا … توترتُ خوفا و قلقا … و تأملتها بحيرة … سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها … لكنها لم تطلقها بسهولة … و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء … لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت : ” ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ ” أمي نظرت إلي باهتمام … ثم قالت : ” ماذا حدث ؟؟ ” ” لا شيء … ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! ” عبس وجه والدتي ، و قالت : ” و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك … انتبه لها ” أثار كلام أمي جنوني ، فقلت : ” أمي … ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ ” قالت أمي بمرارة : ” لديها رهبة مرضية من الغرباء … تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها … إنها مريضة بذلك منذ سنين … منذ رحيلك يا وليد ! ” لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني … أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي … و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء … لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه و كم تمنيت … كم تمنيت … لو أن عمّار يعود للحياة … فأقتله … ثم أقتله و أقتله ألف مرة … إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل …. قالت أمي : ” و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض … و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة … لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب … قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى … لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! ” و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور … و يدور و يدور … حتى لف المجرة بأكملها تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة … أسندت رأسي إلى يدي … رأتني أمي أفعل ذلك فقالت : ” بني … أ أنت بخير ؟؟ ” رفعت يدي عن رأسي و قلت : ” و لماذا … لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ ” قالت : ” لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا … هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر … كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا … فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد ” قلت : ” لكن يا أمي … إنها … إنها …. ” و لم تخرج الكلمة المعنية … أتممت : ” إنها صغيرة جدا … ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا … ” و تابعت : ” كان يجب … كان يجب … إن … ” و لم أتم … ماذا عساي أن أقول … ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء … لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي … هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا … توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي … التفت إليها و قلت : ” أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني … لن أعود ؟؟ ” والدتي قالت : “أخبرناها بأنك قد تعود … و لكن … بعد عشرين عاما … و قد لا تعود … ” كانت أمي تبكي … بينما قلبي أنا ينزف … قلت : ” و لكنني عدت … ” والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها … و نظرت إلي باهتمام و قلق … قلت : ” و يجب أن أرحل ” و تابعت طريقي إلى غرفة سامر … فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة … و من ثم الطرق الخفيف … ” أنا وليد ” بعد قليل … فتح الباب … كنت أقف عن بعد … أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع قلت : ” صغيرتي … أنا آسف … ” ما إن قلت ذلك … حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا زلزلني هذا المشهد … كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ قلت بعطف : ” رغد … ” رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم … بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء … لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب … ” رغد يا صغيرتي … ” لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة … و يبكي قلبي معها … ” رغد … أرجوك كفى … ” ثم قلت : ” توقفي أرجوك … لا احتمل رؤية دموعك ! ” و لم تتحرك رغد … تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل … و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد … المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها … و حين التفت يسارا … رأيت صورتي أيضا ! فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة ! لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد ! نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة ! كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي … فأنفي محفور كما هو الآن ! كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي … !؟ ” يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! ” ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك ! ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة … بعيدا عني … و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب … رجعت للوراء … لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟ أظن … أن علي الخروج حالا الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت : ” أحب أن أتفرج على رسوماتك ! ” و لكن أهذا وقته ! رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت : ” لاحقا طبعا … إذا سمحت ِ ” رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي … في هذه اللحظة التقت نظراتنا كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف … أخذت الكراسة …. و قلت و قلبي يتمزق : ” لا تبكي أرجوك … ” لكن الدمعة فاضت … و انسكبت … و انجرفت … تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة … ” رغد … سألتك ِ بالله كفى … أرجوك … ” ” لا أستطيع أن أتغلب على ذلك … كلهم مرعبون … مخيفون … أشرار … يريدون اختطافي ” و انفجرت رغد في بكاء مخيف … هستيري … قوي … و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء … أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم … و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها … تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة … كما فعلت يومها … لكنني عجزت عن ذلك تمنيت لو … لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض … و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة … خلية خلية … ذرة ذرة … لو يعود الزمن للوراء … لكنت قتلته في عراكي معه آخر مرة … و لم أدع له الفرصة ليعيش و يؤذيك … إنني كنت ُ السبب … نعم أنا السبب … و قد انتقم مني أبشع انتقام … و أي انتقام ؟؟ ثمن بقيت أدفعه منذ ذلك اليوم ، و حتى آخر لحظة في حياتي البائسة … ما ذنب صغيرتي في كل هذا …؟ خسئت أيها الوغد … هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد … و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بيني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد ” عزيزتي ؟؟ ” رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي … و هي تبكي بألم صارخ … و تقول بين دموعها : ” لا تتركوني وحدي … لا تتركوني وحدي … ” أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها … ثم نظرت إلى باستياء و قالت : ” لماذا يا وليد ؟؟ ” في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد … الكثير من الرسومات الجميلة …لأشياء كثيرة … ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة ! صورة لها و هي صغيرة و غاضبة ! و العديد من صور أشياء خيالية … و أشباح ! لا أعرف ما الذي تقصده بها … كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي الآن أسمع طرقا على الباب ” تفضل ” و دخلت والدتي ” وليد … العشاء جاهز ” تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي : ” وليد … لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا ” فأومأت برأسي موافقا . و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت . بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة لا يزال الدمار ينتشر … و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف … و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع … تم غزو مدينتين أخريين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن … و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف … كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا …. و رؤية العساكر يضربون المدنيين و يقبضون على بعضهم … منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا … و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة … في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي ! ” تفرج على هذه أيضا … هذا كل ما لدي ” وضعتُ الكراسات على المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي … تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة … إن عيني كانت على الرسومات ، إلا أن أذني كانت مع التلفاز ! بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت : ” رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ ” رغد ابتسمت بخجل و قالت : ” نعم … عدا اللوحة الأخيرة ” و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها ! لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟ إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي … فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها ! قلت : ” متى تنهينها ؟ ” لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى ! قالت : ” غدا أو بعد الغد … ” قلت : ” خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! ” رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت : ” لماذا ؟ ” أجبت : ” لأنني … سأرحل غدا باكرا … كما تعلمين ! ” اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق … و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي … و كنت شبه متأكد ، من أنني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران ! حملق الجميع بي … فشعرت بالأسى لأجلهم … كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم أول من تحدث كان أمي : ” ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ ” صمت قليلا ثم قلت : ” قلت ذلك منذ أتيت … انتهت الزيارة و لابد لي من العودة ” قال والدي مقاطعا : ” ستبقى معنا يا بني ” هززت رأسي ، و قلت : ” و العمل ؟؟ ماذا أفعل ببقائي هنا ؟؟ ” و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك ! و حين وصلت دانة ـ و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب ـ بكت هي الأخرى ! أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت : ” سأخلد للنوم ” و ذهبت إلى غرفة سامر أخذت أقلب كراسة رغد مجددا … كم أثارت ذكريات الماضي … كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها ببساطة ! كم أتمنى لو … تعود تلك الأيام … جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة … كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع … كالمرة السابقة … و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسللت بهدوء و حذر خارجا من المنزل … كان السكون يخيم على الأجواء … و الكون غارق في الظلام الموحش … إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب خرجت إلى الفناء الخارجي ، و كان علي أن أترك الباب غير موصد … و سرت إلى البوابة الخارجية … فإذا بي أسمع صوت الباب يفتح من خلفي .. استدرت إلى الوراء … فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب ! صمدت في مكاني مندهشا ! رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي … ثم تهز رأسها اعتراضا … ثم تقبل إلي مسرعة … ” وليد … لا … لا ترحل أرجوك ” حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال … سألتها : ” لم … أنت مستيقظة الآن ؟؟ ” رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها … ” أوه … كلا أرجوك ! ” قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر … إلا أن رغد بدأت تبكي بحدة … ” لا تذهب وليد أرجوك … أرجوك … ابق معنا ” قلت : ” لا أستطيع ذلك … أعني … لدي عمل يجب أن أعود إليه ” و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي … علي أن أهرب منه … رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا … ثم تقول : ” خذني معك ” ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة … رغد قالت : ” أريد أن أعود إلى بيتنا ” ” رغد !! ” دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم … و نبدأ دوامة جديدة من الدموع … قلت : ” رغد … أرجوك كفى … ” رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام : ” أنا … وفيت بوعدي … و لم أخن اتفاقنا … لكنك كذبت علي … و لم تعد … و الآن بعد أن عدت … تبادر بالرحيل … و تنعتني أنا بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد … تتركني و ترحل من جديد ” كالسم … دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته … و زلزلتني أيما زلزلة … قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق : ” لم … لم … تخبري أحدا … ؟؟ ” رغد هزت رأسها نفيا … قلت بذهول : ” و لا … حتى … سامر ؟؟ ” و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم … فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة … تحت قدمي ّ قالت : ” كنت ُ أنتظر أن تعود … لكنهم أخبروني أنك لن تعود … و لا تريد أن تعود … و كلما اتصلت بهاتفك … وجدته مقفلا … و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين … لماذا يا وليد ؟؟ ” لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك … أو … أو حتى أن أتقيأ من الصدمة ! لكن … ما الجدوى الآن … كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء … أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل … و حسبي الله و نعم الوكيل … سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو … و نبهني للوقت الذي يمضي … و الوقت الذي قد مضى … و الوقت القادم المجهول … كم سخرت الدنيا مني … فهل من مزيد ؟؟؟ ” صغيرتي … أنا ذاهب … ” رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة … و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها … استدرت موليا إياها ظهري … لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي … سرت خطى مبتعدا عنها … نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها … قلت : ” اقفلي الباب من بعدي .. ” دون أن التفت نحوها … فهو دوري لأذرف الدموع … التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها … ” وليــــــــــد ” و كعصفور يطير بحرية … بلا قيود و لا حدود … و لا اعتبار لأي شيء … أقبلت نحوي … استدرت … و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي … و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها … احتفالا بمولد يوم جديد … منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا … حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب … مع الآخرين . بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، إلا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم … أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها … توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت أتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر … اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام … أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى … في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات . لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، إلا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة ! حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، إلا إنني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة . أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه … و أكلت الحرب مدنا جديدة … و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن … في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك … في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا … الكثير الكثير من المباني المحطمة … و الشوارع الخربة … مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب … فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر … قلت : ” سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ ” أجاب سيف : ” نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ ” ” كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! ” ابتسم سيف و قال : ” إنه مصنع عاطف … والد عمّار … يرحمهما الله ! ” دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى … ! أخذت أتأمله بشرود … ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني … ” ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ ” سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام … قال سيف : ” نعم … فعاطف قد توفي العام الماضي … رحمه الله “حل يتبع
__________________
|
![]() |
![]() |
![]() |
#44 |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() تاريخ التسجيل: 18 - 8 - 2011
المشاركات: 19,566
معدل تقييم المستوى: 7645 ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
__________________
هناك فراغات يتركها الراحلون ..يخلدها الزمن ... تبقى منحوته على الصخور .. لا يمكن أن يملأها الآخرون ؟؟؟ |
![]() |
![]() |
![]() |
#45 |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() تاريخ التسجيل: 18 - 8 - 2011
المشاركات: 19,566
معدل تقييم المستوى: 7645 ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
__________________
هناك فراغات يتركها الراحلون ..يخلدها الزمن ... تبقى منحوته على الصخور .. لا يمكن أن يملأها الآخرون ؟؟؟ |
![]() |
![]() |
![]() |
#46 |
عضو مميز
![]() تاريخ التسجيل: 25 - 1 - 2023
المشاركات: 498
معدل تقييم المستوى: 7 ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
__________________
|
![]() |
![]() |
![]() |
#47 |
عضو مميز
![]() تاريخ التسجيل: 25 - 1 - 2023
المشاركات: 498
معدل تقييم المستوى: 7 ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
بين يوم و آخر ، يحضر نوار لزيارة دانة أو الخروج معها للعشاء في أحد المطاعم أو للتنزه … أو شراء مستلزمات الزفاف و عش المستقبل ! ” إلى أين ستذهبان اليوم ؟؟ ” سألتها ، و هي ترتدي عباءتها استعدادا للخروج ، قالت : ” إلى محلات التحف أولا ، ثم إلى الشاطئ ! سأعود ليلا ! ” قلت : ” الشاطئ ؟ رائع ! كم أشتاق الذهاب إليه ! ” قالت بمكر : ” تعالي معنا ! ” نظرت إليها باستهتار ثم أشحت بوجهي عنها … قلت : ” كنت سأفعل لو أن خطيبك لم يكن ليرافقنا !” قالت بخبث : ” نذهب وحدنا ؟ أنا و أنت ؟؟ ” ” نأخذ أبي و أمي ! ما رأيك دانة ؟؟ اصرفيه و دعينا نذهب نحن الأربعة ! ” ” لا تكوني سخيفة ! ” و انصرفت عني ترتب عباءتها أمام المرآة … قلت : ” في كل يوم تخرجين معه ! لم لا تتنازلين عن هذا اليوم لنخرج معا ؟؟ إنني أشعر بالملل ” قالت : ” غدا يعود سامر و اذهبي معه حيث تريدين ! ” و غدا هو موعد زيارة سامر ، الذي يأتي مرة أو مرتين من كل شهر … ليقضي عطلة نهاية الأسبوع معنا … لكن … لكنني لا أشعر بالحماس للذهاب معه … حين أقارن بين وضعي و وضع دانة أشعر بفارق كبير … إنها منذ لحظة ارتباطها تعيش سعادة و بهجة متواصلة … و تستمتع بحياتها كل يوم خطيبها رجل ثري و يغدق عليها الهدايا و الهبات ! كل يوم أذهب أنا للكلية ثم أعود و أقضي وقتا لا بأس به في الواجبات و في الرسم ، بينما تستمتع دانه بالنزهات و الرحلات مع خطيبها المغرور … و في أحيان أخرى تقضي ساعات طويلة في التحدث معه عبر الهاتف ! حين يتصل سامر فإن حديثنا لا يستغرق غير دقائق … فهل كل المخطوبين مثل دانه سواي أنا ؟؟ قلت أستفزها : ” و على كل … فخطيبك شخص مغرور و بغيض ! لا أعرف كيف تحتملين البقاء معه كل هذه الساعات ! ” التفتت دانه نحوي و نظرت إلي بخيلاء و قالت : ” مغرور ؟ و حتى لو كان كذلك ! يحق له … فهو أشهر و أغنى لاعب في المنطقة ! أما بغيض … فلا تعني شيئا ! فهو رأيك في جميع الرجال ! ” و صمتت لحظة ثم قالت : ” و ربما حتى سامر ! أنت خالية من الرومانسية يا رغد ! و لا تعرفين كيف تحبين أو تدللين خطيبك ! ” و هنا سمعنا صوت جرس الباب ، فانطلقت دانه مسرعة تحثني على الخروج من غرفتها ، ثم تقلق الباب … و تغادر … ربما نسيت دانه ما قالت حتى قبل أن تغادر ، لكن كلماتها ظلت تدق مسمارا مؤلما في قلبي لوقت طويل … أنا فعلا لا أشعر باللهفة للقاء سامر ! لكنه دائما يشتاق إلي … و في الآونة الأخيرة ، بعد أن انتقل إلى مدينة أخرى ، صار يعاملني بطريقة أشد لطفا و حرارة كلما عاد ذهبت إلى غرفتي و أنا متأثرة من جملة دانه الأخيرة هذه … فهل أنا فعلا خالية من الرومانسية ؟؟ و هل بقية الفتيات يتصرفن مثل دانه ؟؟ أنا لم أحتك مباشرة بصديقة مخطوبة فأنا أول من خطبت من بين صديقاتي رغم أنني أصغرهن سنا ! أردت طرد هذه الأفكار عن رأسي ، فعمدت إلى كراساتي … و أقبلت على الرسم … شيء ما دعاني لأن أفتش بين لوحاتي المتراكمة فوق بعضها البعض عن صورة وليد ! لا تزال الصورة كما هي … منذ رحل … لم أملك أي رغبة في إتمام تلوينها … لست من النوع المتباهي بنفسه ، لكن هذه اللوحة بالذات … رائعة جدا ! وليد … له وجه عريض … و جبين واسع … و شعر كثيف … و عينان عميقتا النظرات … و فك عريض منتفخ العضلات … و أنف معقوف حاد ! إنه أكثر وسامة من نوّار الذي تتباهى دانه به ! و من سامر المشوه طبعا … لم أكن لأرسم شيئا مشوها كوجه سامر … إنه لا يصلح عملا فنيا … في لقائي الأخير بوليد ..عند رحيله ليلا … بكيت كثيرا جدا … ربما أكثر مما بكيت يوم علمت أنه سافر للدراسة دون وداعي قبل سنوات … أوصدت الباب و دخلت ، و العبرات منزلقة بانطلاق على خدي الحزين فوجئت برؤية والدتي تقف عند النافذة المشرفة على الفناء ، و التي تسمح للناظر من خلالها أن يرى البوابة ، و من يقف عند البوابة ، و ما يحدث قرب البوابة ! لم أعرف لحظتها ما أفعل و ما أقول … أصابني الهلع و الخرس … أمي اكتفت برشقي بنظرات مخيفة و حزينة في آن واحد ، ثم انصرفت … منذ ذلك الحين و هناك شيء ما يقف بيني وبينها … لا أعرف ما كينونته و لا أجله في المساء ، زارتني ابنة خالتي نهلة ، و طبعا سارة معها فهي تلازمها كالذيل ليلا و نهارا ! كنت أرغب في التحدث مع نهلة عن أمور تشغل تفكيري و تحيرني … و أشياء لا أستطيع التحدث عنها لشخص آخر … و لكن كيف لي أن أصرف هذه الصغيرة المتطفلة ؟؟ ” ساره … هل تحبين الذهاب إلى غرفتي و التفرج على رسوماتي ؟؟ يمكنك أيضا رسم ما تشائين ! ” ” سأذهب حين تذهب أختي ” أوه … كيف لي أن أصرفها …؟؟ ” إذن … ما رأيك بمشاهدة فيلم هزلي جديد مدهش … أحضره أبي يوم أمس ؟ اذهبي لغرفة المعيشة و تفرجي مع أمي ! ” “سأبقى معكما ” نهلة نظرت إلي نظرة استنتاج ، ثم قالت لشقيقتها : ” عزيزتي ساره … شاهدي الفيلم و نحن سنأتي بعد قليل ! ” ” سأذهب حين تذهبان ” يا لها من فتاة مزعجة ! ألا أستطيع أن أنفرد بصديقتي لبعض الوقت ؟؟ قالت نهلة : ” لا بأس رغد ! فهي لا تكترث لما نقول ! … أهناك شيء ؟؟ ” ترددت ، و لكنني بعد ذلك أطلقت لساني لقول أمور لم أظن أن سارة ستفهمها … فهي إلى كونها لا تزال صغيرة ، و غبية لحد ما ! قلت : ” سامر سيأتي غدا ! ” قالت : ” و …؟؟ ” قلت : ” سيفتح موضوع زواجنا من جديد ، كما في كل مرة ! إنه يريد أن نتزوج مع دانه … و يبدو أن والدتي اقتنعت بالفكرة و صارت تشجعني عليها … ” قالت : ” و أنت ؟؟ ” تنهدت ثم قلت : ” تعرفين … إنني أريد أن أنهي دراستي أولا … و … و … أعرف رأي وليد ” نهلة ترفع حاجبا ، و تخفض آخر … و تميل إحدى زاويتي فمها بمكر ! ” و أعرف رأي وليد ! و إذا قال وليد : الزواج ممنوع !؟ ” قلت بسرعة : ” لن أتزوج ! ” قالت : ” و إن قال : الزواج واجب !؟ ” لم أرد … نهلة تأملتني برهة ، ثم قالت : ” رغد ! و لماذا تنتظرين رأي وليد ؟؟ إنه ليس ولي أمرك أو المسؤول عنك ! ” استأت من هذه الحقيقة الموجعة … فلطالما كان وليد مسؤولا عني منذ الصغر … و لطالما قال أنه لن يتخلى عني … و لطالما اعتبرته أهم شخص في حياتي … إلى أن غاب … قلت : ” لكنه … لكنه … أكبرنا … و أنا أحترم رأيه كثيرا … و … سأعمل بما يقول ” نهلة قالت : ” ألا يزال كما كان في الماضي ؟ أذكر أنه كان طويلا و قويا ! كان يلعب معك كثيرا سابقا ! ” ابتسمت ، و توسعت الشعيرات الدموية في وجهي ! و قلت بخجل : ” إنه كذلك ! لكن … لا مزيد من اللعب فقد أصبح رجلا كبيرا ! ” قالت : ” صحيح ! على فكرة هل تزوج ؟؟ ” الشعيرات التي كانت متفتحة قبل ثوان انقبضت و خنقت الدماء في داخلها … أيقظت جملة سارة في نفسي شيئا كان نائما بسلام … قلت بارتباك أمحو السؤال و أطرده من الوجود : ” لا … لا ” قالت نهلة : ” إذن لابد أنه يفكر في الزواج الآن ! بعدما عاد للوطن و استقر في العمل ! ” ثم أضافت مداعبة : ” هل تريدين عروسا له ؟؟ جميلة و جذابة و رائعة مثلي !؟ ” قلت بحنق بدا معه جليا استيائي من الفكرة : ” لا تكوني سخيفة يا نهلة ! ” استغربت نهلة استيائي هذا ، ثم قالت : ” إنه كبير على أية حال ! و لا يناسب فتاة تصغره بتسع سنين ! ” فكرة أخرى ـ أن يتزوج وليد ـ رافقت الفكرة الأولى ـ خالية من الرومانسية ـ في اللعب بالمضرب و الكرة في رأسي طوال الساعات التالية ! قلت : ” إنه … لا يفكر في الإقامة هنا … أتمنى لو نعود إلى بيتنا السابق … معه ” قالت : ” ماذا عن خطيبك ؟؟ هل سيستقر هو الآخر في المدينة الأخرى ؟؟ ” قلت : ” لا أعرف … ! عمله هناك … و لابد له من البقاء هناك ” ” و إن تزوجتما ؟؟؟ ستنتقلين للعيش معه حتما ! ” لم تعجبني الفكرة ! لا أريد أن أبتعد عن أهلي … إنني لا أستغني عنهم … أريد البقاء في بيتهم … ” سأنتظر رأي وليد ” تقوس حاجبا نهلة دهشة و قالت ببلاهة : ” رأي وليد ؟؟ في أن تقيمي مع زوجك أو مع والديك ؟؟ ” قلت بغضب : ” حمقاء ! أعني في أن نؤجل موضوع الزواج لوقت لاحق … فربما تتغير الأوضاع … ” ” عليكم أن تقرروا بسرعة ! فموعد زواج دانه يقترب ! أين هي على فكرة ؟؟ ” ” دانه ؟ خرجت كالعادة تتنزه مع خطيبها ! ” ابتسمت نهلة … لكنني أزحت ابتسامتها جانبا بسؤالي : ” نهلة …هل يشعر جميع المرتبطين بسعادة مميزة عندما يتنزهون مع بعضهم البعض … أو يتبادلون الهدايا … أو المكالمات الهاتفية ؟؟ ” طبعا نهلة اندهشت ، و قالت : ” أكيد ! طبعا ! ” صمت لثوان ، ثم قلت : ” لكنني لا أشعر بشيء كهذا ! إنني أتحدث معه كما أتحدث معك ! لا شيء مميز … ليس كما تكون دانه حين تتحدث مع خطيبها أو تخرج معه ! غاية في السرور ! ” فوجئت نهلة بكلماتي هذه … ة قالت : ” أنت ِ … لا تحبينه ؟؟ ” قلت بسرعة : ” بالطبع … أحبه ! ” نظرت نهله نحو سارة البليدة … ثم قالت : ” كما تحب دانه خطيبها ؟؟ ” ” لا ! كما تحبين أنت ِ حسام ! ” دانة عادت تسأل : ” ليس كما تحب امرأة ٌ رجلا ؟؟ ” توترت من سؤالها … و بعثرت نظراتي فيما حولي … و وقع سهم منها على سارة ، و التي كانت تنظر إلينا ببلادة و غباء مزعجين ! قلت بعصبية : ” و كيف يجب أن تحب امرأة رجلا ؟؟ ” قالت نهلة بأسى : ” أوه يا عزيزتي ! رغد ! إنك لا تزالين طفلة ! ” عادت دانه من سهرتها الخارجية عند العاشرة و النصف … كنت أشاهد الفيلم الذي أحضره والدي مؤخرا ، و حين دخلت غرفة المعيشة رمت بحقيبة يدها على المقعد و تهالكت عليه بتنهد … ” لم لم تنامي بعد رغد ! عادة ما تنامين باكرا جدا ! ” لم ألتفت إليها ، و أجبت : ” سأتابع الفيلم حتى النهاية ” صمتت لحظة ، ثم قالت : ” سأريك شيئا ” و سحبت حقيبتها ، و منها أخرجت علبة مجوهرات صغيرة ، و فتحتها لتريني الخاتم الذهبي الرائع الذي بداخلها … ” رائع ! كم ثمنه ؟؟ ” رفعت رأسها و نظرت إلي من طرف عينيها و قالت : ” كم ثمنه ؟؟ لا أعرف طبعا ، و لكن بالتأكيد باهظ … أهداني إياه خطيبي الليلة ! كم هو رائع ! ” قلت و أنا أتأمل هذه التحفة المبهرة : ” نعم ! رائع هنيئا لك ! ” قالت دانة : ” حقا ! هل غيرت رأيك فيه أخيرا ! ” قلت : ” الخاتم ؟؟ ” ” بل خطيبي يا نبيهة ! ” حدقت بها قليلا ثم قلت : ” بغيض و مغرور … ” ثم أشحت برأسي عنها … و إن كان بغيضا في عيني ، فهو في عينيها شيء رائع … و مميز ! لم تكترث دانة لقولي ، و أخذت تنقل الخاتم من إصبع لإصبع بسرور و دلال ! ” دانه … ” ” نعم ؟ ” كنت أريد أن أسألها … و شعرت بالخجل … و لزمت الصمت ! دانة نظرت إلي باستغراب : ” نعم رغد ؟؟ ماذا أردت القول ؟؟ ” ترددت قليلا ثم قلت بحياء و بصوت منخفض و نبرة متوترة : ” هل … تحبين نوّار ؟ ” دهشت دانة من سؤالي ، لذا حملقت بي وهلة ، ثم قالت : ” ما هذا السؤال !؟ ” ندمت لأنني طرحته ! إنه موضوع حساس لم أجرؤ من قبل على التحدث فيه مع أي كان … و لما لحظت دانة تراجعي الخجل ، قالت : ” نعم أحبه ! إنه شريك حياتي … ! نصفي الآخر ! ” صمت قليلا ثم سألت : ” إذن … كيف تشعرين حين يكون معك ؟؟ ” أنا بنفسي لاحظت ذلك … رغم المساحيق التي تغطي وجهها إلا أن اللون الأحمر المتوهج طلى وجهها و هي تجيب على سؤالي : ” أشعر … ؟؟ … بالحرارة ! ” و أشارت إلى قلبها بيديها كلتيهما … الحرارة … في صدري و جسمي كله ، هي شعور لم أحس به في حياتي … إلا عندما اقتربت من شخص واحد فقط … هو وليد … ! ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ” وليد ! هل فقدت صوابك !!؟؟ قال سيف و هو فاغر فاه لأقصى حد من هول المفاجأة … لقد أخبرته بخبر فعلتي الجنونية الأخيرة … ” نعم يا سيف ! استقلت و انتهى الأمر ” أخذ يهز رأسه و يضرب يدا بالأخرى من الغيظ و الأسف … ” أرجوك يا سيف … قضي الأمر … لم أكن لأستطيع الاستمرار و الجميع ينظر إلي و يعاملني بهذا الشكل … يحتقرونني و يتحاشون الاقتراب مني و كأنني وباء خطير ” ” و ما لك و لهم ؟ وليد ! لم يكن الحصول على هذه الوظيفة بالأمر السهل … لقد تسرعت ” استدرت بغضب ، و قلا بانفعال : ” فليذهبوا بوظيفتهم للجحيم ” أعرف أن العثور على عمل هو من أكثر الأمور صعوبة في الوقت الحالي ، لكنني ضقت ذرعا بالهمزات و اللمزات التي يرمي بها الآخرون علي بقسوة ، لكوني قاتل و خريج سجون … كما و أنني سمعت بعضهم يذكر صديقي سيف بالسوء بسبب علاقته الوطيدة معي … بقائي في العمل بشركته صار يهدد سمعته هو … و أنا لم أكن لأرضى عليه بأي أذية … أليس هو الباقي لي من الدنيا ؟؟ تلا هذا صمت مغدق … سيف استاء كثيرا جدا من إقدامي على هذه الخطوة التي وصفها بالتهور … ألا أنني كنت أراها حلا لابد منه قال : ” ما أنت فاعل الآن ؟؟ ” ابتسمت ابتسامة سخرية … ” أفتش من جديد ” نعم … عدنا للصفر ! لو أنني أتممت دراستي ، مثلك يا سيف ، لكنت الآن … رجلا محترما مهابا … أتولى إدارة إحدى الشركات كما كنت أحلم منذ الصغر … و فشلي في تحقيق أي من أحلامي ، هو أمر لا يجب أن تتحمل أنت مسؤولياته ، أو ينالك سوء بسبب علاقتك بي سيف كان قلق … أردت أن أغير الموضوع ، فقلت : ” اخبرني … ما النبأ الجميل الذي تحمله ؟؟ ” و كان سيف قد أبلغني بأن لديه خبر جميل ، عندما وصل إلى بيتي قبل دقائق ! سيف قال : ” لقد … عزمت على إتمام نصف الدين ! ” فاجأني الخبر ، و أسرني كثيرا ، فأمطرت صديقي بالتهاني القلبية ! إنه أول خبر سعيد أسمعه منذ شهور … ” أخيرا يا رجل ! فليبارك الله لك ! ” ” شكرا أيها العزيز … العقبة لك ! متى يحين دورك ؟؟ ” دوري أنا ! إن مثل هذا الموضوع لم يكن ليخطر على بالي ! و هل يفكر في الزواج رجل خرج من السجن قبل شهور ، و بالكاد بدأ يتنفس الهواء … و كان و عاد عاطلا عن العمل ! … و فوق كل هذا … ذو جرح لم يبرأ بعد … قلت : ” قد تمضي سنوات و سنوات قبل أن تعبر الفكرة على رأسي مجرد العبور ! ” ” لم يا رجل !؟ إننا في السابعة و العشرين ! وقت مناسب جدا ! ” قلت : ” لأجد ما يعيلني أولا ! كيف لي أن أتحمل مسؤولية زوجة و أطفال ! ” قال سيف : ” إنك تحب الأطفال يا وليد ! ألست كذلك ؟ ” ” بلى ! … ” ” ستكون أبا عطوفا جدا ! ” و ضحكنا ! يمكنني أن أضحك بين حلقات سلسة همومي التي مذ بدأت لم تنته … قضيت أسابيع أفتش عن عمل … و فشلت حتى أقاربي الذين لجأت إليهم طالبا الدعم ، خذلوني لو كان سبب دخولي السجن شيء آخر ، لربما عاملني الناس بطريقة أفضل … كرهت الدنيا و كرهت نفسي و كرهت كل شيء من حولي … و بدأت نقودي التي جمعتها خلال الأشهر الماضية تنفذ … و أعود للفقر من جديد … كنت جالسا في حديقة المنزل الميتة … أدخن السيجارة تلو الأخرى … غارقا في التفكير و الهموم … كانت الأرض أمامي قاحلة … لا زرع فيها و لا حياة … تماما مثل حياتي … تزوج صديقي سيف بعد بضعة أشهر خطوبة … و ينعم الآن بحياة جديدة ، و يتولى مسؤوليات أكبر … و لم يعد متفرغا لي … حصلت على عمل بسيط جدا في أحد المحلات التجارية … إلا أنني لم استمر فيه بسبب المشاكل التي واجهتني ، لكوني موصوم بالإجرام و القتل … أصبحت بإحباط شديد … و أنا افقد القليل الذي كنت قد حصلت عليه … و ضاقت بي الدنيا … كما و داهمني الإعياء و المرض … فقررت الهروب من مدينتي إلى مكان ألقى فيه شيء من الاحترام و المودة بعيدا عن السمعة المجروحة … إلى حيث يوجد من يحبني و يرغب بوجودي و يتقبلني على ما أنا عليه من عيوب و وصم عار … إلى أهلي …. كانت شهور عشرة قد انقضت منذ رحلت عنهم … كلما اتصلوا بي أو اتصلت بهم ، أخبرتهم بأنني في أحسن حال ، بينما أنا في أسوئه انفث الدخان السام من صدري … و أفكر … أ أعود إليهم ؟؟ أم لمن ألجأ ؟؟ أتخيل نفسي بينهم من جديد … فتظهر صورة رغد لتحتل منطقة الخيال من رأسي … فأبعدها و أبعد الفكرة … ” لا … لن أعود ” و أرمي بالسيجارة على الأرض ، و أدوسها بحذائي فتندفن تحت الرمال … إلى جانب شقيقاتها … في قبور متجاورة و مزدحمة … لماذا لا أموت أنا مثلها ؟؟ إلى متى أستمر في تدخين هذه الأشياء القذرة ؟؟ ألا يكفي السجن أن لوث سمعتي و ضيع مستقبلي ؟ أ أترك دروسه و مخلفاته تلوث صدري و تفسد صحتي ؟؟ أتذكر قول نديم لي … لا تدع السجن يفسدك يا وليد … هل أنا شخص فاسد الآن ؟؟ نديم … ليتك معي الآن … … فجأة … تذكرت شيئا غاب عن مذكرتي تماما ! يوم وفاته ، نديم أوصاني بشيء … طلب مني أن أزور عائلته و أطمئن عليهم ! وقفت منفعلا … يا للأيام ! لم يخطر هذا الأمر ببالي من ذي قبل … و كيف له أن يجد فرصة للظهور فيما يحتل تفكيري أمور أخرى … ربما وفاء ً لذكرى صديق عزيز لطالما كان يدعمني في أسوأ أيام حياتي … أو ربما كان فراغا طويلا لم أجد معه ما أفعله أو حتى هروبا من هذه المدينة و سمعتي المنحطة فيها أيا كان الدافع ، فقد قررت يومها زيارة عائلة نديم ! نديم أخبرني بأنه يملك مزرعة في المدينة الشمالية ، و هذه المدينة بعيدة عن مدينتي و هي أقرب إلى المدينة الصناعية حيث يعيش أهلي … جمعت كل ما أحتاجه و ما قد أحتاجه ، و عزمت الرحيل … الهدف لم يكن زيارة عائلة نديم تنفيذا لوصيته التي ماتت يوم وفاته ، بقدر ما كان الفرار من الفشل الذريع الذي أعيشه في هذه المدينة الآن أدرك لم قرر والدي الرحيل ، و لم لا يفكر في العودة لا بد أنه تعرض لمثل ما تعرضت له … بسبب جريمتي النكراء … ذهبت لزيارة سيف في مسكنه الجديد ، و أبلغته أنني راحل … كان وداعنا مؤلما إلا أنه قال : ” في أي وقت … و كل وقت … تشعر بأي حاجة لأي شيء ، تذكر أنني موجود ” و دفع إلي مبلغا من المال قبلته على شرط أن أرده له في أقرب فرصة … و لا أعلم كم تبلغ المسافة بيني و بين هذه الفرصة ! أقفلت أبواب المنزل الكئيب … و تركت الذكريات القديمة سجينة … تغط في سبات أبدي … بما فيها صندوق الأماني المخنوق ، و الملقى بلا اهتمام عند إحدى زوايا الغرفة إن كتب لي أن أعود يوما … فسأفكر في فتحه ! انطلقت مستعينا بالله و متوكلا عليه … متجها إلى المدينة الشمالية … لم أكن قد زرتها في حياتي من قبل ، إلا أنني أعرف أن الطريق إلى المدينة الصناعية يؤدي إليها ، و أنها لا تبعد عن الأخيرة إلا قليلا وصلت إلى المدينة الصناعية … و شوقي سحبني نحو بيت عائلتي سحبا … كيف لي أن أعبر من هنا … ثم لا أمر لألقي و لو نظرة عابرة على أهلي ..؟؟ كان الوقت عصرا … أوقفت سيارتي إلى جانب سيارة أبي ، و السيارة الأخرى التي تبدو جديدة و آخر طراز ! مؤخرا صار سامر يأتي إلينا مرة واحدة في الشهر … أصبح يعمل عملا مضاعفا و قلت حتى اتصالاته ! و حين جاء البارحة ، طلبت منه أن يصطحبني إلى الشاطئ هذا اليوم ! طبعا سامر فرح كثيرا بهذا الطلب … و أنا كنت أريد أن أرفه عن نفسي و أقلد دانة ! إنها دائما تشعرني بأنني لا أصلح امرأة ! الجميع من حولي يعاملونني على أنني لا أزال طفلة ! إنني الآن في الثامنة عشر من العمر … و أحس بأنني خلال الأشهر الماضية كبرت كثيرا ! لقد بدأت استخدم المساحيق بكثرة مثلها ، و أشتري الكثير من الحلي و الملابس… بالرغم من أنني لا أجهز للزفاف مثلها ! فكرة الزواج الآن لم أقتنع بها … و لسوف أنتظر حتى أنهي دراستي و أكتسب صفات المرأة التي تعرف كيف تحب و تدلل شريك حياتها ! أليس هذا هو المطلوب ؟؟ ” هيا رغد ! الوقت يمضي ! ” سامر يناديني ، و هو يقف خلف الباب ، ينتظر خروجي … أجبت و أنا ارتدي شرابي ثم حذائي الجديد ذا الكعب العالي ، على عجل : ” قادمة … لحظة ” و في ثوان كنت أفتح الباب … حين صرت أمامه راح يحدق بي باستغراب ، ثم قاد بصره إلى حذائي ! ” رغد ! لقد طلت بسرعة ! لم تكوني هكذا البارحة ! ” ابتسمت و قلت و أنا أظهر حذائي الطويل من خلف عباءتي : ” إنها الموضة ! ” سامر ضحك و قال : ” و لكن يا عزيزتي هل ستسيرين بحذاء هكذا على الشاطئ ؟؟ ” ” لا يهم ! أنا أريد أن أظهر أطول قليلا حتى لا يظنني الناس طفلة ! ” ” كما تشائين ! هيا بنا ” و خرجنا ، و مررنا بالمطبخ حيث وضعت سلة صغيرة تحتوي بعض الحاجيات فحملها سامر و هممنا بالانصراف …. و إذا بدانة تقول : ” هل آتي معكما ؟؟ ” أنا و سامر تبادلنا النظرات … طماعة ! ألا يكفيها أنها تخرج مع خطيبها كل يوم فيما أنا جالسة وحيدة في المنزل ؟؟ قلت : ” لا ! إنها رحلة خاصة ! ” سامر ابتسم بخجل ، و دانه نظرت إلي من طرف عينها مع ابتسامة خبيثة أعرفها جيدا … و أعرف ما تعنيه منها ! تجاهلتها و سرت مبتعدة … ” انتبهي لئلا تنزلقي زرافتي ! ” و أخذت ْ تضحك ! قلت بحنق : ” ليس من شأنك ” و خرجت مسرعة …. دانه تتعمد التعليق على أي شيء يخصني … و دائما تعليقها عنه يوحي بعدم رضاها أو سخريتها منه ! إلا أنها تشعر بالغيرة من طولي الذي يسمح لي بارتداء أحذية كهذه ، و هي محرومة منها ! خرجنا على الفناء الخارجي و سامر يبتسم بسرور ! حتى و إن كانت نظارته السوداء الكبيرة تخفي عينيه … كنت أعرف أنه يحدق بي ! اعتقد أنه سعيد جدا … السعادة المميزة … التي لم أذق لها أنا طعما حتى الآن … فيما نحن نقترب من الباب ، قرع الجرس ! تقدم سامر و فتحه … و توقفت الكرة الأرضية عن الدوران ! اعتقد أن شهابا قد ارتطم بها … هنا خلف هذا الباب ! شعور مفاجئ … و اصطدام مجلجل … و حرارة محرقة شاوية … و حمم … و ضباب … و اختناق … و ارتجاف … و عرق … و ذهول … كلها مجتمعه انبثقت فجأة من عند الباب و اجتاحتني … هل أصدق عيني ! ؟ هل يقف أمامي المارد الناري الضخم المرعب … متمثلا في صورة … وليد ؟؟؟ هتف سامر بذهول و بهجة عارمة : ” أخي وليد !! ” و تعانقا عناقا طويلا … يا لها من مفاجأة مذهلة ! اعتقد أنه كان علي الأخذ بنصيحة سامر و تغيير حذائي … إنني أوشك على الانزلاق ! لماذا فقدت توازني بهذا الشكل ؟؟ بعد لقائهما الحميم … استدارا نحوي … حينما وقت عيناه على عيني ، طردهما بسرعة و غض بصره … و قال بهدوء لا يتناسب و الحمم و البركاين و الانفجار و النيران الذي تولدت لحظه ظهوره من فتحة الباب : ” كيف حالك صغيرتي ؟ ” لقد حاولت أن أحرك لساني لقول أي شيء … لكن بعد احتراقها ، فإن كلماتي قد تبخرت و صعدت للسماء ! طأطأت رأسي للأرض خجلا … حين عبرت ذكرى لقائنا الأخير سريعة أمام عيني ! … الرجلان يقتربان … رفعت رأسي فإذا بعينيه تطيران من عيني إلى الشجرة المزروعة قرب الباب الداخلي … سمعته يقول : ” ألا يبدو أنها كبرت !؟ ” التفت إلى الشجرة … صحيح … لقد كبرت خلال الشهور الطويلة التي غاب فيها وليد عنا ! لكني سمعت سامر يضحك و يقول : ” إنه الكعب ! ” أدركت أنه كان يقصدني أنا ! كم أنا غبية ! قال وليد : ” أ كنتما … خارجين ؟؟ ” قال سامر : ” أوه نعم … لكن يمكننا تأجيل ذلك لما بعد … تعال للداخل ستطير أمي فرحا ! ” قال وليد : ” أرجوكما امضيا إلى حيث كنتما ذاهبين ! إنني سأبقى في ضيافتكم فترة من الزمن ! ” مدهش ! عظيم ! ممتاز ! و أقبلا نحو الباب الداخلي ، و دخلنا نحن الثلاثة … كانت مفاجأة مذهلة أحدثت في بيتنا بهجة لا توصف … عشر شهور مضت … و هو بعيد … لا يتصل إلا قليلا … و حين يتصل يتحدث مع الجميع سواي … و إن تحدث معي صدفة ، ختم جمله المعدودة بسرعة … لكنه الآن موجود هنا ! أنا فرحة جدا ! علمنا في وقت لاحق أنه مر منا قبل ذهابه إلى المدينة الشمالية لأمر خاص … ” كم ستظل هناك ؟؟ ” سألته أمي ، فأجاب : ” لا أعرف بالضبط ، ربما لبعض الوقت … سأفتش عن عمل هناك فقد أجد فرصة أفضل ! ” دانة قالت : ” و ماذا عن عملك في المدينة ؟؟ ” وليد اضطربت تعبيرات وجهه ، و قال : ” تركته ” ثم غير الموضوع لناحية أخرى … فجأة سألني : ” كيف هي الكلية ؟؟ ” أنا تلفت من حولي بادئ الأمر … كأنني أود التأكد من أن وليد يتحدث إلي أنا ! بالطبع أنا ! لا يوجد من يدرس بالكلية غيري الآن ! قلت بصوت خفيف خجل : ” الحمد لله … تسير الأمور على ما يرام ” قال سامر : ” أنها مجتهدة و نشيطة ! و مغرمة بالفن أكثر من أي شيء آخر ! حتى مني ! ” الجميع أخذوا يضحكون … سواي أنا و وليد … أنا لم تعجبني هذه الجملة … أما وليد … فلا أعرف لم اكفهر وجهه هكذا … ؟؟ قالت دانة : ” إذن فقد أفسدت رحلتك الخاصة أيتها الببغاء الصغيرة ! ” و استمرت في الضحك … أنا استأت أكثر … وليد سأل دانة : ” أية رحلة ؟ ” أجابت : ” كانا يودان الذهاب للشاطئ ! سامر لا يأتي غير مرة في الشهر و خطيبته متلهفة لقضاء وقت ممتع و متميز معه ! إنها تغار مني ! ” و رفعت رأسها بتباهي … ربما كانت تقصد مداعبتي ، لكنني حملتها محمل الجد … و وقفت فجأة ، و استأذنت للانصراف … ذهبت إلى غرفتي مستاءة … و غاضبة … ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ قلت : ” يبدو أنها تضايقت … ” فجميعنا لاحظ ذلك … أما زالت دانه على ما كانت عليه منذ الطفولة ؟؟ نظرت إلى شقيقتي باستياء … و كذلك كان سامر ينظر إليها … قالت : ” كنت أداعبها فقط ! ” سامر قال : ” لكنها انزعجت منك ! سأذهب إليها ” و غادر من فوره … أنا طبعا لم أملك من الأمر من شيء … قلت لدانة : ” أحقا كانا يودان الذهاب للشاطئ ؟ أنا آسف أن حضرت و أفسدت مشروع نزهتهما ! ” ” لا تكترث وليد ! فهي فكرت في الذهاب فقط لأنني أوحيت لها بأن تذهب ! إنها لا تحب الخروج من المنزل خصوصا للأماكن العامة ” التزمت الصمت و لم أعلق على جملتها الأخيرة … قالت : ” ما رأيكم أن نذهب جميعا غدا لنزهة عند الشاطئ ! كم سيكون ذلك رائعا ! ” نزهة عند الشاطئ ؟ يبدو حلما ! إنني لم أقم بكهذا نزهة منذ سنين ! و يبدو أن الفكرة قد راقت للجميع … سألت : ” و ماذا عن نوّار ؟؟ ” قالت : ” في البلدة المجاورة ! إنها مباريات حاسمة ! ألا تتابع الأخبار ؟؟ ” في الواقع ، أخبار كرة القدم ليست من أولويات اهتماماتي ! تحدثنا عن أمور عدة … و شعرت براحة كبيرة … هنا حيث أحظى باهتمام أناس يحبونني و يعزونني … أنا أرغب في العيش مع أهلي فقد سئمت الوحدة … ألا يكفي أنني حرمت منهم كل هذه السنين ؟؟ خرجت من كنفهم و أنا فتى مراهق … مليء بالحماس و الحيوية و مقبل على الحياة … طموح و ماض في طريق تحقيق أحلامه … و عدت إليهم … و أنا رجل كئيب محبط مثقل بالهموم … فاقد الاهتمام بأي شيء … صقلني الزمن و شكلتني الأقدار … لكنهم لا زالوا يحترمونني … بعد مدة ، عاد سامر لينضم إلينا … لم تكن رغد معه كنت أريد أن أسأله عنها ، و لم أجرؤ ! إنها لم تعد طفلتي … لم يعد لي الحق في الإهتمام بها … ” إذن فتلك السيارة الرائعة في الخارج هي لك يا سامر ! ” سألته ، فأجاب : ” نعم ! اشتريتها مؤخرا … ما رأيك بها ؟؟ ” ” مظهرها رائع ! ” ” و مزاياها كذلك ! كلفتني الكثير ! ” مقارنة بسيارتي القديمة فإن أي شيء في سيارة سامر سيبدو مدهشا ! إذن … فأحوال أخي المادية جيدة … كم أبدو شيئا صغيرا أمامه … كم خذلت والدي ّ الذين كانا في الماضي … يعظمان من شأني و يتوقعان لي مستقبلا مشرفا … شعور جديد تولد هذا اليوم ، يزيدني رغبة فوق رغبة في الرحيل العاجل … ففي الوقت الذي يتمتع فيه سامر بعمل جيد و دخل وفير و مستقبل مضمون … افتقر أنا لكل شيء … حتى رغد … أصبحت له … ألم شديد شعرت به في معدتي هذه اللحظة ، كان يتكرر علي في الآونة الأخيرة و لكنني لم أزر أي طبيب … استمر معي الألم فترة طويلة و لم أشعر معه بأي رغبة لتناول الطعام المعد على مائدة العشاء … لذا ، ذهبت إلى غرفة شقيقي ناشدا الراحة و الاسترخاء في صباح اليوم التالي أردت الذهاب إلى المطبخ حيث يجلس الجميع … قبل دخولي تنحنحت و أصدرت أصواتا من حنجرتي حتى أثير انتباههم لوصولي ، اقصد انتباه رغد لوصولي … ” تفضل بني ” قالت أمي … فدخلت و أنا حذر في نظراتي … لم أكن أريد أن أراها … لكنني رأيتها ! ” صباح الخير جميعا ” ردوا تحية الصباح و طلبوا مني الجلوس إلى مائدة المطبخ الصغيرة التي يجتمعون حولها ” تعال وليد ! إننا نخطط لرحلة اليوم ! هل تحتمل الرحلة أم أنك لا تزال متعبا ؟؟ ” التفت إلى دانة التي طرحت السؤال ، و لم يكن بإمكاني منع عيني من رؤية رغد التي تجلس إلى جوارها ” أحقا قررتم ذلك ؟ سيكون ذلك رائعا ! ” رواية انت لي الحلقة السابعة عشر الجزء 2 أمي قالت و هي تشير إلى المعقد الشاغر : ” تعال عزيزي … أعددت ُ فطورا مميزا من أجلك ! ” نظرت باتجاههم ، لقد كانوا جميعا ينظرون إلي ، بلا استثناء … قلت : ” سـ … أذهب إلى غرفة المعيشة ” و انسحبت من المطبخ … وافتني أمي بعد قليل إلى غرفة المعيشة تحمل أطباق الفطور … ” شكرا … ” ابتسمت أمي ، و بدأت أنا في تناول وجبتي بهدوء ، بينما هي تراقبني ! ” أمي … أهناك شيء ؟؟ ” سألتها بحرج ، قالت بابتسامة : ” لا عزيزي … فقط أروي ناظري برؤيتك … ” شعرت بالطعام يقف في بلعومي … برؤية من تودين يا والدتي الارتواء ؟؟ برؤية الخذلان و الفشل ؟؟ الحطام و البقايا ؟؟ برؤية رجل موصوم بالجريمة ؟؟ كم خذلتك ! كم كنت فخورة بي في السابق ! إنني الآن شيء يثير النفور و الازدراء في أعين الجميع … ” الحمد لله ” حمدت ربي ، و وضعت الملعقة على الطبق … ” لم توقفت ! ألم يعجبك ؟؟ ” ” بلى أماه … لكني اكتفيت ” ” عزيزي سأخرج إن أزعجك وجودي … أرجوك أتم وجبتك ” ” لا يا أمي ، لقد اكتفيت و الحمد لله ” أمي بعد ذلك ، عادت بالأطباق إلى المطبخ ، ثم أقبل الجميع إلى غرفة المعيشة و حاصروني بنظراتهم … و أسئلتهم حول أموري … أنا كنت اكتفي بإجابات مختصرة … فلا شيء فيما لدي يستحق الذكر و الاهتمام … و كالبقية كانت رغد تتابعني بعينيها و أذنيها ، في صمت … ” ما رأيك بتجربة سيارتي يا وليد ! لنقم بجولة قصيرة ! ” بدت فكرة ممتازة و منقذة ، فوافقت فورا و نهضت مع سامر ، و خرجنا … ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ” هل غضبت مني أمس حقا ! أنا آسفة يا رغد ! كنت أمازحك ! ” نظرت إلى السقف و قلت : ” حسنا ، انتهى الأمر الآن ” ثم إليها و قلت : ” و لكن لا تنعتيني بالببغاء ثانية … خصوصا أمام وليد ” قالت دانة باستغراب : ” وليد ؟؟ ” فاضطربت … قالت : ” تعنين سامر !؟ ” قلت : ” وليد أو سامر أوأي كان … أمام أي كان ! ” و أشحت بوجهي بعيدا عنها فعادت تبرد أظافرها بالمبرد و تغني ! كنا نجلس في المطبخ ، و للمطبخ نافذة مطلة على ساحة خارجية خلفية تنتهي بالمرآب مرآب منزلنا مفتوح من ثلاث جهات ، و يسد جهته الخارجية بوابة كهربائية … أقبلت أمي تحمل سلة الملابس المغسولة و دفعت بها إلي : ” رغد … انشريها على الحبال ” أوه … يا لعمل المنزل الذي لا ينتهي ! أردت أن أعترض و أوكل المهمة إلى دانة ، التي تجلس أمامي تبرد أظافرها بنعومة ! ” انشريها أنت يا دانة ! ” هزت رأسها اعتراضا ، فهممت أن أتذمر ! لكني لمحت من خلال النافذة بوابة المرآب تنفتح ، و أدركت أنهما قد عادا ! و بسرعة ابتلعت جملة التذمر قبل أن أتفوه بها و قل متظاهرة بالاستسلام : ” حسنا … لن أؤذي أظافرك ! سأنشرها أنا ! ” و حملت السلة ، و خرجت للفناء الخلفي … وليد ركن السيارة في المرآب ثم خرج منها هو و سامر … و هاهما الآن يقبلان باتجاهي … سامر نزع نظارته السوداء … و سارا متوازيين جنبا إلى جنب يسبقهما ظلاهما … و يدوسان عليهما … وليد … بطوله و عرضه و بنية جسده الضخم … و الذي اكتسب عدة أرطال مذ لقائي الأخير به قبل شهور … زادت وجهه امتلاء و جسده عظمة … و كتفيه ارتفاعا … و صار يشغل حيزا محترما من هذا الكون و يفرض وجوده فيه ! يخطو خطا أكاد أسمع صوت الأرض تتألم منها ! سامر … بجسمه النحيل … و قوامه الهزيل… و وجهه الطويل … المشوه … و خطاه الهادئة البسيطة … و أنظاره الخجلة التي غالبا ما تكون مدفونة تحت الأرض … شيء ما أحدث في نفسي توترا و انزعاجا … إنهما مختلفان … لماذا تنجرف أنظاري لا إراديا نحو وليد ؟؟؟ لماذا يشدني التيار إليه هو ؟؟ حين صارا أمامي مباشرة ، توقف سامر و قال : ” أ أساعدك ؟؟ ” بينما تابع وليد طريقه مرورا بي … ثم ابتعد دون أن ينظر إلي … لكني كنت أراقبه … توقف برهة و استدار مادا يده نحو سامر قائلا : ” المفتاح ” مفتاح السيارة كان يسبح في كفه كسمكة في البحر ! تناول سامر المفتاح منه ، ثم أخذ يساعدني في نشر الملابس على الحبال … في الحقيقة قام هو بالعمل … فأنا كنت شاردة و سارحة أفكر … هل هذا هو شريك حياتي حقا ؟؟ لماذا علي أنا أن أتزوج رجلا مشوها ؟؟ لقد شغلت الفكرة رأسي حتى ما عدت بقادرة على التركيز في شيء آخر … هل حقا سأتزوج سامر ؟؟ كم كانا مختلفين … و يهما يسيران جنبا إلى جنب … في وقت الغذاء ، لم أساهم في إعداد المائدة و وافيت البقية متأخرة بضع دقائق … أتدرون ماذا حدث عندما دخلت غرفة المائدة و جلست على مقعدي المعهود ؟؟ قام وليد … و غادر الغرفة ! تلوت معدتي ألما حين رأيته يذهب … إنه لا يريد أن يجلس معي حول مائدة واحدة! الجميع تبادلوا النظرات و حملقوا بي … أمي تبعته ، ثم عادت بعد أقل من دقيقة و قالت : ” رغد … خذي أطباقك إلى المطبخ ” صدمت و اهتز وجداني … و شعرت بالإهانة … و بأنني أصبحت شيئا لا يرغب وليد في وجوده … شيئا يزعجه … و يتحاشى اللقاء به … نعم فأنا ابنة عمه التي كبرت و أصبحت … شيئا محظورا .. رفعت أطباقي و ذهبت إلى المطبخ و انخرطت في بكاء مرير … بعد قليل أتتني دانة تحمل أطباقها هي الأخرى : ” رغد ! و لم هذه الدموع أيتها الحمقاء ! ” لم أعرها أذنا صاغية ، فقالت : ” إنه يشعر بالحرج و الخجل ! تعرفين كيف هو الأمر ! هذا من حسن الأدب ! ” قلت : ” لكنني كنت معكم العام الماضي ” قالت : ” ربما لم يكن قد اعتاد فكرة أنك … كبرت ! ” ليتني لم أكبر ! تركت أطباقي غير ملموسة و خرجت من المطبخ متوجهة إلى غرفتي ، و دانة تشيعني بنظراتها … في الغرفة … تأملت صورة وليد التي رسمتها قبل شهور … و انحدرت دموعي … أخذت أتخيله … و هو واقف إلى جوار سامر … يفوقه في كل شيء يعجبني … ثم … ثم … أتزوج سامر ! ! ؟؟ لماذا أقارن بينهما هكذا ؟؟ وفي العصر ، أتتني دانة .. ” الم تستعدي بعد ؟ سننطلق الآن ! ” ” إلى أين ؟؟ ” ” أوه رغد هل نسيت ! إلى الشاطئ كما اتفقنا ! ” بالفعل كنت قد نسيت الفكرة … و بالرغم من أنني كنت مسرورة جدا بها مسبقا ألا أنها الآن … لا تعجبني ! ” لا أريد الذهاب ” حملقت دانة بي و قالت : ” عفوا ! ألم تكوني أنت المشجعة الأولى ! هل ستبقين في البيت وحدك ؟؟ ” قلت : ” هل سيذهب الجميع ؟؟ ” ” بالطبع ! إنهم في انتظارنا فهيا أسرعي ! ” و ذهبت إلى غرفتها تستبدل ملابسها … أن أبقى وحدي في البيت هي فكرة غير واردة … لم يكن أمامي إلا الذهاب معهم … توزعنا على سيارتي أبي و سامر … جلس وليد على المقعد المجاور لسامر ، و أنا خلفه ، و دانه إلى جانبي ، و تركنا والدي ّ معا في السيارة الأخرى … وليد و سامر كانا يتبادلان الأحاديث المختلفة تشاركهما دانة ، أما أنا فبقيت صامتة … أراقب و استمع … و أشعر بالألم … لم تفتني أي كلمة تفوه بها وليد … او أي ضحكة أطلقها كنت أضغي إليه باهتمام بالغ ! حتى كدت أحفظ و أردد ما يقول ! عندما وصلنا ، فرشنا بساطا كبيرا و وضعنا أشياءنا و جلسنا عليه ، إلا أن وليد ظل واقفا … ثم ابتعد … و سار نحو البحر … إنه لا يرد الجلوس حيث أجلس … لماذا يا وليد ؟؟ هل تعرفون كم دقيقة في الساعة ؟؟ ستون طبعا ! و هل تعرفون كم مرة في الساعة فكرت به ؟ ستون أيضا ! و هل تعرفون كم ساعة بقينا هناك ؟؟ ست ساعات ! هل أحصيتم كم وليد جال برأسي خلال الرحلة ؟؟ الثلاثة ، أبي و وليد و سامر ذهبوا للسباحة ، أمي تصف قطع اللحم في الأسياخ و دانة تساعدها … و أنا ، معدتي تئن ! ” رغد ! لم لا تبتلعين أي شيء ريثما يجهز العشاء ؟؟ لم تضرم النار بعد و سنستغرق وقتا طويلا ! ” نظرت إلى دانة و قلت : ” لم لا تسرعان ؟ ” ” لا يزال الوقت مبكرا ! أنت من فوّت وجبة الغداء ! ” لقد كنت جائعة بالفعل ! و فتشت في السلات فلم أجد شيئا يستحق التهامه حتى يجهز طعام العشاء المشوي ! نظرت من حولي فرأيت مقصفا صغيرا على مقربة منا … ” أريد الذهاب إلى هناك ! ” قالت دانة : ” اذهبي ! ” قلت : ” تعالا معي ! ” ابتسمت دانة ابتسامتها الساخرة التي تعرفون و قالت : ” نعامتي الصغيرة … تخشى من الظلام … و ترجف خوفا … من فئران نيام ! ” و هو مطلع أغنية للأطفال ! غضبت منها فاسترسلت في الضحك … تجاهلتها و خاطبت والدتي : ” تعالي معي … ” أمي مدت يديها الملطختين بعصارة اللحم ، تريني إياهما و قالت : ” فيما بعد رغد ” نظرت نحو الشاطئ فوجدت وليد يجلس على أحد المقاعد … و والدي و سامر لا يزالان يسبحان … التفت إلى دانة و قلت : ” دعينا نقترب من الشاطئ … أريد أن أبلل قدمي ! ” دانة قالت : ” أنا لا أريد ! اذهبي أنت ِ ” ” لا أريد الذهاب وحدي ” و عادت تغني : ” نعامتي الصغيرة … تخشى من الظلام !! ” أصبحت لا تطاق … ! و أمي منهمكة في إعداد أسياخ اللحم … ” اذهبي رغد … إنهم هناك ! اذهبي عزيزتي … ” قالت أمي مشجعة إياي … لم يكن هناك الكثيرون على مقربة منا … و لكنني ترددت كثيرا … في النهاية أقنعت نفسي بأنهم قريبون من الساحل ، كما و إن وليد يجلس هناك … و لا داعي لأي خوف … سرت نحوه و أنا أحس بنظرات أمي تتبعني … فهي تريد لي التخلص من خوفي المبالغ به … من أماكن لا تستوجب أي خوف أو حذر … كانت أمواج البحر تتلاطم بحرية … و نسمات الهواء باردة منعشة تغزو صدري الضائق منذ ساعات … فتفتح شعبه و توسعه … اقتربت من وليد … و لم يشعر بي تجاوزته نحو الماء … فلم أحس بحركة منه .. التفت فرأيته مغمض العينين ، و ربما نائم ! سمحت للماء البارد بتبليل قدمي … و شعرت بانتعاش ! لوّح سامر لي … فشعرت بأمان أكثر و تجرأت على خطو خطوتين يمينا و يسارا … إلا أنني لم ابتعد أكثر من ذلك … لم أخرج عن الحيز الذي يحيط بوليد و يشعرني بالطمأنينة … و الآن تجرأت على خطوة أكبر … و جلست على الرمال المبللة و مددت يدي لألامس الأمواج … كان شعورا رائعا ! أقبل مجموعة من الأطفال بألعابهم و أطواق نجاتهم ، و بدؤوا يلعبون بمرح … كنت أراقبهم بسرور ! ليتني أعود صغيرة لألهو معهم ! التفت للوراء … إلى وليد … استعيد ذكريات ظلت عالقة في ذاكرتي … كان وليد يلاعبني كثيرا حينما كنت صغيرة ! و في المرات التي نقوم فيها برحلة إلى الشاطئ … كان يبقى حارسا لي و لدانة ! عدت بنظري للأطفال … أتحسر ! يبدو أن أصواتهم قد أيقظت وليد من النوم … سمعت صوته يتنحنح ثم يتحرك ، استدرت للخلف فوجدته يقف و ينظر إلى ما حوله … وليد تحرك مقتربا من البحر … فنهضت بسرعة و قلت : ” إلى أين تذهب ؟؟ ” وليد توقف ، ثم … قال : ” لأسبح … ” قلت : ” انتظر … سأعود لأمي … ” في نفس اللحظة أقبل سامر يخرج من الماء نحو اليابسة … ” وليد … تعال يا رجل ! يكفيك نوما ! ” قال سامر ، فرد وليد : ” أنا قادم … لكن ألا يجب أن نشعل الجمر الآن ؟؟ ” ” لا يزال الوقت مبكرا ! ” و التفت سامر إلي و قال : ” رغد أخبري أمي بأننا سنقضي ساعات أكثر في السباحة ! ” قلت : ” حسنا ! ” بينما تصرخ معدتي : كلا ! سامر خرج من الماء ، و صار واقفا إلى جوار وليد … و قام ببعض التمارين الخفيفة … التفت إلى ناحية البساط الذي نفترشه ، و خطوت متجهة إليه … مجموعة من الناس كانوا يلاحقون كرة قدم … فيضربها هذا و يركلها ذاك … يتحركون في طريقي … وقفت في منتصف الطريق لا أجرؤ على المضي قدما … التفت إلى الوراء فوجدت الاثنان يراقباني … و إلى حيث تجلس أمي و أختي … فإذا بهما أيضا تراقباني … الآن … تدحرجت الكرة نحوي و اقتربت من قدمي … و أقبل اللاعبون يركضون نحوها … وصل إلي أحدهم و قال : ” معذرة يا آنسة ” أصبت بالذعر … فجأة … خطوة للوراء … ثم خطوة أخرى … ثم أطلقت ساقي للريح راكضة باضطراب و فزع … إلى حيث جرفني التيار … نحو وليد ! يتبع
__________________
|
![]() |
![]() |
![]() |
#48 |
عضوة متألقة
![]() ![]() ![]() ![]() تاريخ التسجيل: 16 - 8 - 2022
الدولة: في أعماق الروح ..
المشاركات: 5,014
معدل تقييم المستوى: 77 ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
كل لهفة و لحظة قهر و شوق و كل المشاعر الملخبطة تأخذ القارئ إلى رحلة بلا نهاية ... متاااااااابعة . استمر اخي ..
__________________
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
#49 |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() تاريخ التسجيل: 18 - 8 - 2011
المشاركات: 19,566
معدل تقييم المستوى: 7645 ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
متابعة بشغف لمعرفة النهاية
__________________
هناك فراغات يتركها الراحلون ..يخلدها الزمن ... تبقى منحوته على الصخور .. لا يمكن أن يملأها الآخرون ؟؟؟ |
![]() |
![]() |
![]() |
#50 |
عضو مميز
![]() تاريخ التسجيل: 25 - 1 - 2023
المشاركات: 498
معدل تقييم المستوى: 7 ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
شمس اليمن منورين
__________________
|
![]() |
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الكلمات الدلالية (Tags) |
(رغد , انت , رواية , ووليد) |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
انواع عرض الموضوع | |
|
|